عندما تكون القصائد عناوينًا لفصول الرواية: رواية سمراويت - حجي جابر
- عمر الجضعي
- May 28, 2024
- 5 min read
اختار الكاتب الإرتري حجي جابر أن يضع أبيات شعر قبل كل فصل في روايته الأولى سمراويت الصادرة عن المركز الثقافي العربي. وخصّ شاعرين لا يقتبس من قصائد غيرهما أبدًا؛ وهما السعودي محمد الثبيتي، والإرتيري محمد الشيخ (المعروف بمحمد مدني). راوح بين هذين الشاعرين المحمدين: فصلٌ يقتبس في أوله من شعر هذا وفصلٌ يعنونه بأبيات قالها ذاك.
مزاج روايته يقوم على انتقالات في الفصول وتباين بينها؛ فصل عن قدوم البطل إلى إرتيريا لأول مرة وهو في عمر الثلاثين، والفصل الذي يليه يحكي عن حياته القديمة في جدة. فصل عن حاضره في إرتيريا يستكشفها لأول مرة، ثم فصل عن ماضيه في جدة التي نشأ فيها. هذا المراوحة متناغمة مع اقتباسات القصائد بين الشاعرين. المنطق البسيط يقول أنه يقتبس لمحمد الثبيتي في فصول جدة ومحمد الشيخ في فصول إرتريا، لكنه لم يفعل ذلك؛ بل عكس بينهما. فصول جدة يبدأها بأبيات من قصيدة لمحمد الشيخ الإرتيري، وفصول إرتريا يكون مطلعها شعرًا لمحمد الثبيتي السعودي. كأنني أرى في هذا التخالف كشفًا لحال البطل في نزاع الهوية عنده: نزاع بين مكانين، بين انتماءين. قال البطل عن نزاعه: "في السعودية لم أعش سعوديًا خالصًا، ولا إرتريًا خالصًا. كنت شيئًا بينهما. شيء يملك نصف انتماء، ونصف حنين، ونصف وطنية... ونصف انتباه."
أول اقتباس من شعر محمد الشيخ هو لقوله:
أنا الريح...
تأخذني الاتجاهاتُ
إلى غيرها
كي أردّ احتمالَ المنافي
إلى الأمكنة.
م. الشيخ
وبدأ الفصل الذي يليه بأسطر لمحمد الثبيتي يقول فيها:
يا وارد الماء علَّ المطايا
وصبّ لنا وطنًا في عيون الصبايا
فما زال في الغيب منتجع للشقاء
وفي الريح من تعب الراحلين بقايا
م. الثبيتي
قدوم البطل عمر إلى أسمرا... "وأنا القادم محملًا بالأمنيات في تأسيس ذاكرة جديدة وأشواق مكتملة." بدأ البطل عمر حكايته بذكر قدومه بالطائرة إلى أسمرا بعد وداع جدة التي قضى فيها ما مضى من عمره ولا يعرف غيرها. يقول عن حياته: "ثلاثون عامًا كانت المسافة التي يجب قطعها رجوعًا لردم بحر من الأوجاع." رحل أهله، قبل مولده، عن بلدتهم مصوّع التي دكتها الحرب إلى أسمرا، ثم بعد اشتداد المعارك رحلوا إلى جدة.
عمر وسمراويت... هو القادم للتو من جدة، وهي القادمة من باريس. غريبان يلتقيان في مدينة أسمرا الإرترية، في مقهى مودرنا بشارع كمشتاتو، الشارع الذي يتحدث الإيطالية كما وصفه البطل. يقول عمر لسمراويت: "ليس مهمًا يا سيدتي أن نكون كلنا شعراء وروائيين.. المهم أن نتلمس الجمال أيًا كان شكله وصورته." أعجب عمر لحظة لقائها بجمالها الطاغي الذي حكى عنه: "سمراويت تملك وجهًا بهيًا ذا سمرة فاتحة، وكأنه سليل عرقين غاية في التضاد، فجاءت ملامحه مزيجًا من جمال هذا وبهاء ذاك."
سمراويت لم تختلف عنه؛ هي كذلك تعيش نصف انتماء، فأبوها الإرتيري روائي وأمها اللبنانية شاعرة. حكت له في لقائهما الأول ذاك عن أهلها: "لكن يبدو أن جينات الأدب لم تنتقل إلي، فأنا للأسف لست روائية ولا شاعرة.. أنا فقط سمراويت."
كون أن الكاتب اختار اسم هذه الفتاة عنوانًا للرواية، فسيعرف القارئ منذ اللحظة الأولى من لقاء البطل بها وإعجابه بوجهها البهي بأن لقائهما سيتكرر، وإعجابه بها سيعظم.
عمر وصديقه أحمد... ذلك في زمن جدة، قبل خروجه إلى أسمرا. حكى عنه في فصول جدة المعنونة بقصائد محمد الشيخ. أحمد هو من عرّفه بوطنه الإرتيري الذي كان يجهل أكثره. كان عمر لا يعرف النشيد الوطني الإرتيري، وحين سمعه في القنصلية بجدة ذات مرة، ظنه أغنية مألوفة لمطرب لا يتذكر اسمه. صحح له صديقه الخطأ وهو يضحك عليه.
أحمد هو من بصّره كذلك بحيل حتى يجذب النساء ويستميل عواطفهن، كما ورطه بالرقص أمام جمع من الفتيات في القنصلية. رغم ذلك، صعُب على صديقه أن يؤثر على مواقفه السياسية ويجعله ينضم إلى نفس الحزب الذي يشدو به، كما لم يتفقا على فريق كرة قدم واحد يشجعانه؛ فأحدهما يشجع فريق نادي الاتحاد والآخر يشجع فريق الأهلي.
لا تُحدْ
الفظ جحيمَك
أو فغادِر ساحليك إلى الأبدْ
م. الشيخ
عمر والصلاة... في أيامه الأولى في أسمرا، وجد كاتدرائية القديس جوزيف العظيمة التي شيدها الإيطاليون أثناء استعمارهم البلد. غالَب تردده ودخلها: "أول ما فعلته كان النظر إلى الأعلى، لم يكن جمال الكاتدرائية الخارجي ليضاهي داخلها، تناثرت على الجدران الداخلية رسومات بديعة، رأيت صورة كبيرة لمريم العذراء وبين يديها عيسى رضيعًا، رأيت صورًا أخرى لم أعرف أصحابها." لكن لم يُطِلْ في الكاتدرائية بل غادرها متعجلًا لحرج وقع فيه.
وفي أحد تأملاته من المقهى على شارع كمشتاتو ومرور الناس فيه، سمع الأذان وفوجئ بالصوت العالي كالذي اعتاده في جدة. لحق الناس إلى الجامع السلطاني المبني على طراز تركي، بناه الإيطاليون كذلك ولا أدري لم شيدوا جامعًا للمسلمين! دخل هذا الجامع وصلى فيه؛ "تذكرت جدتي وهي تصر أن إسلام إرتيريا أجمل، كنا نناكفها فتعجز عن مجاراتنا دون أن نغير رأيها."
حكى البطل كذلك عن مراهقته في جدة، وقصصًا عن التدين وتباين تفسير المفاهيم الإسلامية من بلد إلى آخر، كلها من نافلة الانتماء النصفي عنده.
كلّ المسافات نصف اتجاه!
م. الشيخ
عمر والصحافة... عمل عمر صحفيًا في جدة، وفي هذا ظهر له التضاد والتنازع في هويته. كأن يستطلع آراء الناس عن أنظمة الإقامة في السعودية، وهو "الجداوي" الذي يصعب على من يحدثه بالهاتف تمييز أنه غير سعودي، فيقع في مواقف محرجة.
ولما صار يهتم بالوضع السياسي في إرتيريا وخلاف التحزبات، كانت شؤون الصحافة هي أشد ما تقلقه. عمله الصحفي جعله يكثر في حديثه مع من حوله عن السياسة والوضع الإرتيري، هذا أثناء مقامه في إرتيريا. وذات مرة مع احتدام النقاش مع سعيد (أحد المشاركين الأقدمين في الثورة)، أخذه إلى لقاء سياسيين من وزراء في الحكومة ومعهم قيادات من الحزب الحاكم. لقيهم عمر في بهو فندق "كرن"، وهو فندق إيطالي في أحد الشوارع الجانبية لكمشتاتو كما وصفه البطل.
أحسست بالخذلان في سرد ما حدث في البهو؛ فالبطل قدَّم لهذا اللقاء بذكر سببه، ثم شوقنا بوصف الفندق وذكر من هؤلاء الذين لقيهم. إلا أنه لم يحك إلا انخراطهم السريع في حواراتهم وحديثهم حول أمور كثيرة في الصحافة والسياسة والرياضة. لم يفصل فيم تحدثوا بالضبط، وما علاقة حديثهم بخلافه مع سعيد، ولا أثر اللقاء على عمر في تغيير آراءه أو بقاءها. ما ذكر البطل إلا عن حديثهم في الرياضة، ورهانه مع أحد هؤلاء المسؤولين عن هدف لماردونا في أي عام كان!
الحب والحرب... هذا هو الموضوع الطاغي في الرواية، والصبغة الثيمية عليها. هي لم تكن حربًا قائمة عاشها البطل؛ بل شتات بعد حرب قديمة، وخلاف أحزاب عصي عليه فكه؛ كل طرف يستميله إليه. منذ قدومه إلى أسمرا وهو يزور آثار احتلال أو آثار حرب: الاستعمار الإيطالي للبلد ومبانيهم وحصونهم، وقباب الأتراك المتداعية، ومقتنيات الثوار المفرقة والبندقية التي ثاروا بها ضد الاحتلال الأثيوبي. هذا سوى التنازع الحاصل في أي لغة أحق أن تنشر الصحف بها، وأي حزب مناضل أحق أن يتبعه.
ونظرتُ في عين السّما
فخَبتْ شَراراتُ الظما
وانشقَّ
عن مطرٍ
غماميْ
م. الثبيتي
وجدت حجي جابر يكرر هذه "الثيمة" في رواياته: بطل عاشق يخوض حربًا أو آثار حرب أو سجلات لأحداث حرب. قرأت له رواية مرسى فاطمة ورواية لعبة المغزل، وفيهما هذا كما في روايته سمراويت لكن بحكايات اختلفت عن بعضها. لا أدري عن روايتيه الأحدث: رغوة سوداء ورامبو الحبشي، فلم أقرأهما بعد.
اللغة والأسلوب... أسلوب الكتابة فيه سهولة عذبة، نتذوق خلجات البطل ولا نغوص فيها. أتقن حجي جابر الحكاية، وجعل سرده واضحا. الأشعار في طوالع الفصول أغنته عن أن يثقل سرده بالمجاز، فأصبحت حكاية البطل عمر خفيفة مطواعة، وإيقاعها متكافئ مع الرواية ومع ما أراد الكاتب.
أما المثلبة الوحيدة في الرواية فهي في بضع مواضع قليلة انقطع فيها صوت البطل عمر. وهذا عندما تحدث بعض من في الرواية ونافسوه في الحكي. صاروا كأنهم قد سحبوا اللاقط منه واستأثروا بالحديث، فانقطع صوته لزمن ليس بطويل. لم يحدث هذا إلا في مواضع قليلة؛ مع جدته ومع سعيد وأحمد كذلك. رغم هذا الانزعاج الطفيف، لم تفسد قراءتي ولم تخبت عن إمتاعي.
وعودًا على حالة نصف الانتباه، يقول عمر عن لحظة شرود داهمته: "كان السؤال موجهًا إليّ بالذات، أيقظني من حالة نصف الانتباه تلك، من خدر لذيذ يسري في جسدي دون أن يصل مداه إلى الآخرين. شعرت كمن تم إيقاظه بماء بارد، فلا هو منتبه تمامًا لما يجري حوله ولا هو قادر على العودة مجددًا لحالته الأولى."
ناشدتُ قلبي أن يستريح
هل يعود الصبا مشرعًا للغناء المعطّر
أو للبكاء الفصيح؟
م. الثبيتي
ذو القعدة 1445
Comments