top of page

الراوي والروائي: ما الفرق بينهما؟

  • عمر الجضعي
  • Jun 16, 2024
  • 5 min read

كل حكاية لها راوٍ يحكيها، هكذا تعودنا في سماع القصص منذ الأزل. إما أن هذا الراوي حدثت له الحكاية التي يحكيها لنا، أو هو شاهد عليها وحدثت لغيره، أو ينقلها لنا سماعًا عن أحد حدثت له - مباشرة عمّن حدثت له أو عن غيره. وفي أحيان يمتنع من يحكي لنا القصة عن ذكر من رواها له ويقول: كان يا ما كان في قديم الزمان...

وهناك راوي الشعر الذي ينقل القصائد عمّن قالها، ورواة الحديث الذين تناقلوه وحفظوا أسماءهم في سلسلة ممتدة لرواة ثقات، ثم آخر الرواة هم الذين يحكون الأمثال والشعبيات ويروونها في المجالس للفكاهة أو العظة. والذي يُعرَف - من هؤلاء أصحاب الشعر والحديث والأمثال والسوالف  - بكثرة ما يروي ويُشهَد له بضبط مروياته، يسميه الناس راوية.

بينما الأدب المتخيل الحديث من قصة ورواية، فتطورت فيه هذه التقنية القديمة. أصبح القارئ يتناول القصة أو الرواية لقراءتها وهو على اتفاق ضمني مسبق مع الكاتب، والناشر كذلك، أن هذا أدبًا متخيلًا؛ أي أن أحداث القصة والرواية ليست حقيقة محضة، ولا يراد من حكايتها تصديق الأحداث أنها وقعت كما كتبت. وهنا تطور مفهوم الراوي، وتغير الشكل التقليدي له. فكاتب الرواية (الروائي) - وكذلك كاتب القصة (القاص) - ليس راويًا للحكاية التي يكتبها. الراوي عندنا في الأدب المتخيل يكون إما شخصًا متخيلًا داخل العالم المفترض للقصة/الرواية، أو هو راويًا مبهمًا محايدًا لا جسد له يحكي بكلام العارف العليم دون أن يكون شخصًا لا متخيلًا ولا حقيقًا.

الروائي والقاص والكاتب المسرحي وكاتب السيناريو ليسوا رواة، والواحد منهم لا يعد راويًا

عندما نقرأ القصة أو الرواية فنحن ننسى كاتبها أثناء خوضنا هذا العالم المحكي المكتوب، كما نتجاهل أي مطبعة طبعت الكتاب ونوع الخط المكتوب وحجمه؛ لا نهتم لأي من هذا. الكاتب الجيد هو الذي يجعلنا لا نفكر إلا بأحداث الحكاية وصراعات من فيها وطموحاتهم وآمالهم وآلامهم وخيرهم وشرهم. ومن هنا أتت الحاجة إلى أن يعزل الكاتب نفسه عن النص؛ ألا يكون حاضرًا وألا تفضحه كلماته، أن يقرأ المتلقي النص بمعزل عن كاتبه الذي لا يحدثه. بينما التدخل الواضح للكاتب يخرب النص ويجعله عملًا مباشرًا كأنه محاضرة أو أسوأ؛ أن يكون موعظة.

لجأ الكُتّاب إلى اختلاق هذا الراوي ليكون هو الوسيط الذي يوصل حكاياتهم إلى القراء ويتلقفونها منهم دون أحكام مسبقة ولا تابعة. وفي هذا فك قيد عن الكاتب بأن يتحرر في كتابته من اللوازم؛ خصوصًا إذا كانت أفعال البطل في القصة أو غيره لا تتوافق مع رأي الكاتب أو تفضيلاته أو انطباعاته عن أمر في الحياة. فبهذا الاتفاق الضمني، نعطي الروائي الفرصة أن يظهر جوانب البطل السيئة ويكشفها بتخيله إلى أين تأخذه أفعاله دون الحكم عليه بسبب أفعال أبطال قصته وأقوالهم وما يحكى عنهم.

لو أتى قارئ وخلط بين الراوي والروائي، لأوقع نفسه في خلل عدم التمييز بين الواقع والمتخيل، ولعد الكاتب متناقضًا لأنه يقول شيئًا في رواية ويقول عكسه في أخرى. بل يصبح تلقيه للنص منقوصًا لقياسه المعتل.

الراوي في القصة أو الرواية هو الناطق بالكلمات المحكية التي يكتبها الروائي أو القاص، وهذا لا يجعله انعكاسًا للكاتب وآراءه وحياته الخاصة. ولو تعمد الكاتب أن يجعل ما ينطقه الراوي انعكاسًا لذاته، لصنفنا ما كتب أنه أدب غير متخيل، ولوضعنا كتابه في رف كتب المذكرات والسير الذاتية.

*

لنفترض بوجود مسرحية في مدينتنا: من سيكون الراوي فيها؟ -

قلنا أن هناك راويًا لكل حكاية، وكلنا متفقون أن المسرحية حكاية متخيلة؛ إذن من هو الراوي في المسرحية؟

كاتب المسرحية لا شأن لنا به؛ فهو لا يظهر على خشبة المسرح ولا يروي لنا أي شيء، ووجوده في وقت العرض غير مهم. قد يكون خلف ستار المسرح، أو جالسًا بين الحاضرين، أو هو نائم في بيته - لا يعنينا نحن الجمهور. الممثلون والممثلات لا يروون لنا الحكاية، بل كل واحد منهم ملتصق بشخصيته التي يتقمصها ولا يحكي إلا دوره في المسرحية. المخرج لا يحكي ولا نشاهده، وبقية طاقم الفنانين العاملين كذلك. إذا حضرنا المسرحية فلا أحد يروي لنا الحكاية، سوى شيئان: موجات الصوت الآتية من المسرح، وانعكاس الضوء المسلط عليه. هذا هو الراوي للجمهور الحاضر.

لكن، إمعانًا في هذا الافتراض، لنقل أن المسرحية انتهت وعدنا إلى بيوتنا. وفي اليوم التالي سألنا أصدقاؤنا وزملاؤنا وأهلونا عن المسرحية التي حضرناها دونهم: كيف كانت؟ فقصصنا لهم ما شاهدنا، أي حكينا لهم ما حدث في المسرحية. هنا نصير نحن الرواة للحكاية كما شهدناها. ولو أن أحد الممثلين هو من حكاها لصديق لم يحضر، فسيصير هذا الممثل راويًا حدثت له الحكاية (أو كما أسميه شهيدًا لأن الحدث يخصه). وهذا الشهيد عادة يكون تحيزه لنفسه واضحًا في سرده للحكاية، أكثر من شاهد بينه وبين المسرح مسافة.

ولزيادة في تعقيد هذا الافتراض، لو قلنا أن الذي حكينا له ما حدث في المسرحية أُعجِب بما سمع، ثم ذهب يحكي لمثله ممن لم يحضر، لأصدقائه أو أهله أو زملائه، فهو هنا يكون راويًا بالسماع والنقل.

هذه هي الأنواع الثلاثة لرواة أي حكاية: الشاهد والشهيد والناقل. هذا عند الراوي المتكلم، الذي هو شخص ناطق. فرضيتنا هذه ينقصها الراوي العليم العارف، والذي يكون كما ذكرت مبهمًا محايدًا لا جسد له إلا أنه ينطق. لا نجده في المسرحية ولا في القصة المصورة على الشاشة. كلامنا هذا قائم على منطق عدم اعتبار الصوت والصورة وآلة التصوير والحفظ رواة، لانعدام النطق عندها. فلا نعتبر أيًا منهم راويًا عليمًا، الذي هو مزية للنص المكتوب وحده.

لو أن كاتبًا قرر أن يكتب قصة أو رواية عن مسرحية عرضت في المدينة، إما هذه المسرحية التي افترضناها أو هو تخيل مسرحية من عنده. تخيل الكاتب أن الستارة رفعت، ثم كتب حكايته لما حدث: وصف الديكورات وأشكال الممثلين، وكتب يحكي عن الأحداث - كأي قصة تحكى. هو الآن يريد أن يكتب قصة أو رواية، أي أدبًا متخيلًا كما عرِفناه وعرّفناه، فهو سيختار راويًا للحكاية. وهذا الراوي سيكون من داخل العالم المفترض، أي المسرح: إما أحد الممثلين يكون هو الراوي، أو المخرج، أو أحد الجمهور الحاضرين، أو غيرهم. هنا فقط يستطيع أن يقرر الكاتب أن يجعل الراوي مبهمًا، راوٍ عليم يحكي ما حدث في المسرحية، إما بتنقله بين شخصياتها وبمعرفته المطلقة لكل ما يحدث يروي لنا، أو يكون محدودًا بشخص واحد وزاوية من المسرح يسرد لنا وجهة نظر محددة لأحداث هذه الحكاية.

*

قد يأتي راويًا في الحكاية المصورة المعروضة بالسينما أو التلفزيون، ويسرد لنا جزء من الحكاية: أي نسمع صوته وهو يفسر ويبين ما يحدث أو ما حدث، وقد يقتبس من كلام أحد في بداية الفيلم أو يسمعنا حكمًا في نهايته، أو يقدم لنا الحكاية منذ بدئها بإعطائنا جو الحكاية وزمانها ومكانها. في بعض الأحيان نميز هذا الصوت ونعرفه؛ كأن يكون أحد الشخصيات هو من يروي لنا بصوته. هذا الراوي ظرفي غير دائم. هو لا يروي كامل الحكاية؛ بل يذهب ويعود.

في الفيلم الأمريكي "ليباوسكي الكبير" للأخوين كوهين، سمعنا الراوي بداية الفيلم ثم ظهر لنا في منتصفه وصار يحدثنا مباشرة في صالة البولينغ. أي تحول من راوٍ عليم إلى متكلم.

في المسلسلات المعاصرة والقريبة، لجأوا إلى حيلة بأن جعلوا أحد الشخصيات يواجه الكاميرا ويحدثنا مباشرة؛ أي تكون الشخصية راويًا متكلمًا. نجد مثالًا لهذا في المسلسل الأمريكي "بيت من ورق" والمسلسل البريطاني الأصل "المكتب." وهذا الانتقال متى ما أتقن فهو يزيد في إظهار وجهة النظر إلى المتلقي بشكل أسرع، مما يرفع من تأهبه وحيرته مع أي شخصية يتعاطف أكثر.

أما الحديث الداخلي للشخصيات في الأفلام والمسلسلات ففيها كشف مبتذل، رغم أن الشخصية تعتبر راويًا إن فعلته.

ما أريد ذكره في مقالتي هذه هو أن القاص والروائي، كما كاتب السيناريو والكاتب المسرحي، كلهم ليسوا رواة ولا ظهور لهم في حكاياتهم التي يدونونها - رغم حضور أرواحهم فيها. هؤلاء الكتاب يحكون؛ لكن لا يروون حكاياتهم بأنفسهم، ولا يبرزون للمتلقي عند حضوره للمشاهدة أو القراءة.

 

ذو الحجة 1445

Recent Posts

See All

Comments


Commenting has been turned off.

© جميع الحقوق الفكرية محفوظة لصاحب الموقع

bottom of page