الأشباه والأشباح: في الفرق بين القصة والرواية
- عمر الجضعي
- May 18, 2024
- 5 min read
عند قراءة الأدب المتخيل من قصص وروايات، ننشغل بأنواع الحكايات وأجناسها وتصنيفاتها. فمعرفة نوع الحكاية قبل قراءة أي نص، وتمييز النص عن غيره، يساعدنا في تحديد ما نختار للقراءة. بها نتوقع الانطباع الذي سيغمرنا لو اشترينا هذا الكتاب أو ذاك، ونعرف هل سنفهم ذلك العالم ونتخيله أم لا، ونتيقن إن كانت الحكاية تناسب أمزجتنا إذا قرأنا النص، وهل سنكمل القراءة حتى نهاية القصة أم نلقي بالكتاب من الملل. ومن أهم ما ننشغل به هو التمييز بين القصة والرواية.
القصة تحكى موصولة من بدايتها إلى نهايتها، تقرأ في جلسة واحدة كما يقول منظروها. فلا نتوقف عادة عن قراءة القصة إلا إذا انتهينا منها. أما الرواية فهي رديف الانقطاعات: نقف متى شئنا، أو متى شاء راويها، لنعاود المواصلة في ساعة أخرى. والرواية تحتمل أن يقطع القارئ الحكاية فيها؛ بل هي تحثنا أن نقطع قراءتها لنتفكر في رموزها ونحلل ما حدث فيها ونربط بين أناسها ونستريح من تخيلها.
القصة قائمة على الوحدة، على الالتصاق، بينما الرواية فهي تنبض بالانقطاعات وتعظم بكل انفصال
تعدد الفصول، والتنقلات الكثيرة بين أزمان مديدة وأماكن متعددة - كلها من سمات الرواية. بينما القصة تنعدم فيها الفصول، أو تكاد تنعدم، وتأتينا نصًا متصلًا بأحداث مختزلة في زمن ضيق وأماكن قليلة.
*
مما جاء في الفرق بين الرواية والقصة -
عندما نقرأ الرواية... فكأننا نجول في شوارع مدينة غصت بآثار من عاشها. في قراءة الرواية نتخيل أننا ننظر في محلات هذه المدينة وبيوتها، أبوابها وسقوفها، جروح الناس وملاعبهم، وضحكهم ونزاعاتهم. تمشي في تخيلك للمدينة: تخرج من طريق وتلج ممرًا ضيقًا، ثم تنفرج إلى ساحة تعيدك إلى طريقك الأولى. أو تميل بك الجادة فتتخلى عن مسارك رغمًا عنك. أو تنسد طريقك فتنكص تبحث عن منفذ غيرها. نرى في الرواية نفس الأماكن، لكن من زوايا مختلفة: ما كان على يميننا يصير على يسارنا، وما رفعنا رؤوسنا لنبصره نجده أسفل منّا بعد حينٍ من البهجة. طلوع ونزول، التفات بِشْرٍ وجَهْدٌ حَزَن. نستريح بين فواصل المدينة وأحيائها، ونسمع أحاديث الناس فيم يتحاورون. ننصت لهم ونعرفهم، ثم نتخطاهم إلى غيرهم، وقد نعود ونجدهم على غير ما عهدناهم.
بينما القصة إذا قرأناها... فهي تسامرنا في ممرٍ وحيد بتلك المدينة: عند ركن منزوٍ أو إطلالة منحصرة نلتقط منها لمحات. لا يتشعب بنا المسير لو مشينا، ولا نحيد عن خط وحيد يجذبنا بحذر إلى ما ستؤول إليه الحكاية. نركز على مواضع قليلة نتشبث بها، ولا نكاد نغادرها إلا إلى ما يشبهها ويذكرنا بما بدأنا به. القصة مسير قصير متصل، برفقة قلائل، وزاد متواضع. نغادرها سريعًا، بل هي التي تغادرنا، لنضيع في الدهشة.
*
هناك نوعان بين الرواية والقصة احترنا في شكليهما واسميها. يبرزان إذا طالت القصة أو إذا قصرت الرواية. كأن الرواية تتنكر عن شكلها وتضيق لتوهمنا بأنها قصة، والقصة تنفخ صدرها وتتطاول لتدعي بأنها رواية. لكننا سهلنا هذا التعقيد على أنفسنا، فقلنا عن القصة إذا طالت هي قصة طويلة، والرواية متى ما قصرت فهي رواية قصيرة. حتى الطول والقصر هنا مبهم: لم نحدد بعقد جازم عدد الكلمات ولا الصفحات ولا طول الزمان للحكاية.
المعيار الأوضح في التفريق بين القصة والرواية هو الجلسة للقراءة؛ إن اكتفينا بجلسة واحدة لقراءة النص فهي قصة. فمتى ما طالت هذه الجلسة وشق علينا إنهاؤها في جلستنا فهي قصة طويلة، ومتى ما قصرت وسهل علينا إنهاؤها في جلستنا فهي قصة قصيرة. والمقصود بقراءتها في جلسة واحدة؛ هي أنها متصلة الحدث، محدودة الانقطاعات والتنقلات، وفكرتها مكثفة.
وأما لو لم تكفنا جلسة واحدة، وكثرت التنقلات في النص والانقطاعات الداعية للتوقف والعودة لاحقًا لنكمله في جلسة أخرى، فهي رواية. ونسميها رواية قصيرة (أو "نوفيلا") إذا كانت التنقلات والانقطاعات محدودة في الزمان والمكان وعدد الفصول، والبطل فيها لا يتشابك أو يختلط مع شخصيات كثر، والسرد محصور مقتصر لا يحيد عن البطل، والحكاية لا تتشعب كما نألفه في الروايات.
وضعت الاقتباس على كلمة "نوفيلا" للغرابة التي أجدها في هذا المصطلح كلما نطق أو كتب. ففي اللغة الإنجليزية يطلقون على الرواية اسم "نوفيل" والرواية القصيرة "نوفيلا". وهنا يصبح للتسمية معنى؛ كأن هذه تصغير لتلك بوضع ياء التصغير والمد في نهاية الكلمة لإعطاء صوت موسيقي للكلمة. بينما في اللغة العربية نسمي الرواية رواية؛ وعند التصغير استعرنا مفردة من لغة أخرى، ولا أدري لم؟ وما يزيد الأمر فوضى هو أن الرواية في اللغة الإسبانية يسمونها "نوفيلا"، وإذا أرادوا أن يقولون رواية قصيرة يقولون "نوفيلا كورتا" والتي تعني رواية قصيرة. إذن، إن قلنا "نوفيلا" في كلامنا باللغة العربية فماذا نقصد؟ الرواية كما يعرفها الإسبان؟ أم الرواية القصيرة حسب مفهومها عند الإنجليز والأمريكان؟ ما أجرأنا على الاستعارة وجرها إلى ما لا تألفه أسماعنا ولا يوافقه لساننا.
*
أمثلة على القصص التي تطول -
التحول للكاتب التشيكي فرانتز كافكا، وهي قصة من ثلاثة فصول. فيها ثلاثة وسبعون صفحة حسب نسخة منشورات تكوين من ترجمة نبيل الحفار، أي في حدود ثلاثة عشر ألف كلمة. الثلاثة فصول هذه تدعم رأي من يعتبرها رواية قصيرة، لكن التكثيف في الحكاية وعدم التشعب يجعلها أقرب إلى القصة الطويلة.
راقصة إيزو للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، وهي قصة من سبعة فصول. فيها أربعة وأربعون صفحة حسب نسخة منشورات تكوين من ترجمة بسام حجار، أي في حدود ثمانية آلاف كلمة. هذه القصة متوسطة الطول، والتقسيمات لم يكن فيها انقطاعًا كبيرًا لا على مستوى السرد والحكاية ولا على الشكل بأن لم يبدأ كل فصل بصفحة جديدة. هي في رأيي أقرب إلى القصة القصيرة رغم أن من يعتبرها قصة طويلة لم يخطئ؛ فالقصة تقع على الحد بين الطويل والقصير.
ليس لدى الكولونيل من يكاتبه للكاتب الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، وهي رواية قصيرة من ثمانية فصول. فيها ستة وسبعون صفحة حسب نسخة دار التنوير من ترجمة صالح علماني، أي في حدود خمسة عشر ألف كلمة. رغم وجود خط سردي واحد للأحداث، إلا أن فيها تشعبات وتنقلات كثيرة مما ترجح كفة اعتبارها رواية قصيرة. قد يعتبرها بعض القراء قصة لا رواية لمحدودية الحدث وصغر الحبكة رغم تعدد الأماكن والتنقل بينها وطول زمن الحدث. الأكيد أنها ليست قصة قصيرة ولا رواية طويلة.
وأما الروايات التي قصرت -
مزرعة الحيوان للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، وهي رواية قصيرة من عشرة فصول. فيها مئة وسبعون صفحة حسب نسخة المؤسسة العربية للدراسات والنشر من ترجمة محمد العريمي، أي أقل من عشرين ألف كلمة بقليل. جرى العرف عندنا باعتبارها رواية، وكل من نشر ترجمة لها إلى العربية عدّها رواية، لكن تكثيف الموضوع، وحصر المكان بالمزرعة، بالإضافة لحجم الحكاية القليل وعدم تشعب الحدث، كل هذا يجعلها رواية قصيرة كما سُوّق النص الأصلي باللغة الإنجليزية على أنها رواية قصيرة.
الغريب للكاتب الفرنسي ألبير كامو، وهي رواية قصيرة من فصلين؛ الأول منهما به ستة أقسام والثاني به خمسة. فيها مئة وثلاثون صفحة حسب نسخة منشورات الجمل من ترجمة محمد آيت حنا، أي في حدود ثلاثة وعشرين ألف كلمة. ترابط الأحداث وتكثيف السرد يجعلها أقرب إلى الرواية القصيرة، رغم أنها قد تصنف إلى رواية بالحكم على حجمها وطول زمن الأحداث.
الشيخ والبحر للكاتب الأمريكي إرنست هامينغواي، وهي رواية متصلة دون فصول. فيها مئة وأربعون صفحة حسب نسخة رؤية للنشر والتوزيع من ترجمة علي القاسمي، أي في حدود خمسة وعشرين ألف كلمة. النص الأصلي باللغة الإنجليزية سوق على أنها رواية قصيرة، لكن من يقول أنها رواية فرأيه معتبر نظرًا لطول النص.
ذو القعدة 1445
Comments